الفقيه والمرنّم: الإصلاح من الداخل (مقاربة بين محمّد عبده وعبده الحمولي)

نداء أبو مراد (كلّيّة الموسيقى وعلم الموسيقى، الجامعة الأنطونيّة، الحدث، لبنان؛ كلّيّة الآداب، جامعة السوربون، باريس، فرنسا)


* أصلاً: محاضرة بالفرنسيّة أُلقيَت في عام ١٩٩١، في إطار ندوة علميّة دوليّة التأمت في معهد العالم العربيّ في باريس تحت عنوان "النهضة العربيّة والموسيقى"، وذلك بمناسبة مرور تسعين عامًا على وفاة عبده الحَمولي ومحمّد عثمان. وقد نُشِرَت بالفرنسيّة في مجلّة دفاتر الشرق (tneirO'I ed sreihac seL) (1991, darM uobA) ، ونقلها مفيد أبو مراد إلى العربيّة لنشرها في مجلّة المواطن (العدد ٣، ٥٩٩١، بيروت) .وقد أعاد المؤلّف كتابة هذا البحث بهدف نشره في أعمال مؤتمر النهضة العربيّة والموسيقى المنعقد في الكسليك عام ٠٠٠٢ (أبو مراد, ٣٠٠٢)، وأعاد صياغته عام ٥٢٠٢ لنشره على موقع ملتقى الموسيقيّة المقاميّة.

ملخـص

تهدف هذه المقالة إلى تبيان النهج الذي اتّبعه عبده الحمولي (١٠٩١-٣٤٨١)، رائد النهضة الموسيقيّة في مصر خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وذلك من خلال إجراء مقارنة مع النهج الذي اتّبعه الإمام محمّد عبده (٥٠٩١ - ٩٤٨١) في إعادة فتح باب الاجتهاد في الفقه الدينيّ الإسلاميّ. وتصف المقالة نماء التقليد الموسيقيّ الفنّيّ الجديد الخاصّ بالمشرق في مصر، وذلك بالرجوع إلى ديناميّة التجدّد المتأصّل الخاصّة بالنهضة العربيّة، التي تتبلور في نهج الإمام محمّد عبده الإصلاحيّ في الفقه الإسلاميّ والإسلام السياسيّ. ويحلّل هذا النصّ عملية التلفيق المتجانس بين أربعة تقاليد موسيقيّة مقاميّة أحادية سابقة، وهي التقليد الحلبيّ والتقليد الشعبيّ المصريّ والتقليد الصوفيّ والتقليد العثمانيّ، وصولاً إلى توصيف نماء الأشكال الموسيقيّة الجديدة وتأسيس الوصلة الثلاثيّة الأطوار في مقام محدّد، مع التأكيد على الميل إلى الارتجال الغنائيّ والعزفيّ. كما أنّه يدرس مآل هذا التقليد خلال النصف الأوّل من القرن العشرين، مع انقسام الورثة بين محافظين حرفيّين (على شاكلة السلفيّين) ومغربنين حداثيّين (على شاكلة القوميّين العلمانيّين)، بعيدًا عن النهج الأصليّ للتجدّد المتأصّل، الإبداعيّ من الداخل، كما أسّس له الفقيه والمرنّم.

الكلمـات المفتاحيّة: التجديد المتأصّل، النهضة العربيّة، الوصلة، التقليد الموسيقيّ، الغربنة الموسيقيّة.

Abstract

The Jurist and the Cantor: Reform from Within (A Comparative Study of Muḥammad ‘Abduh and ‘Abduh al-Ḥamūlī)

This article aims to elucidate the approach adopted by ‘Abduh al-Ḥamūlī (1843-1901), the pioneer of the musical Nahḍa-renaissance in Egypt during the last third of the nineteenth century, by drawing a comparison with the approach employed by Imam Muḥammad ‘Abduh (1849-1905) in reopening the gate of Ijtihād in Islamic religious jurisprudence. The article describes the development of the new artistic musical tradition specific to the Mašriq in Egypt, referencing the inherent renewal dynamics of the Arab Renaissance, which are crystallized in the reformist approach of Imam Muḥammad ‘Abduh to Islamic jurisprudence and political Islam. This text analyses the process of homogenous syncretism between four pre-existing monodic maqām traditions —the Aleppine tradition, the Egyptian popular tradition, the Sufi tradition, and the Ottoman tradition— leading to the characterization of the development of new musical forms and the establishment of the three-part waṣla in a specific maqam, with an emphasis on the propensity for vocal and instrumental improvisation. It also examines the trajectory of this tradition during the first half of the twentieth century, as its inheritors split between literalist conservatives (akin to Salafists) and modernizing Westernizers (akin to secular nationalists), diverging from the original approach of inherent, creative renewal from within, as established by the jurist and the cantor.

Keywords:  Endogenous renewal, Arab Renaissance/Nahda, Waṣla, musical tradition, musical Westernisation.

تمهيد

تستند هذه المقالة في تبيانها لنهج عبده الحمولي إلى هذا النصّ المرجعيّ لإبراهيم المويلحيّ:

استمرّ [عبده الحَمولي] معه [المقدّم] يغنّي على الطّريقة التي كانت معروفة عند المصريّين في ذلك العهد – وأصلها على ما يُعلم من تاريخ وضعِها أنّ رجلاً من أهل حلب اسمه شاكر أفندي وفَد إلى القطر المصريّ في المائة الأولى بعد الألف [للهجرة] وكان فنّ الألحان فيه فنًّا مجهولاً فنقل إليه جملة تواشيح وقدود، وكانت هي البقيّة الباقية من التّلاحين التي ورثها أهالي حلب عن أهل الدولة العربيّة، فتلقّاه عنه بعضهم وصارت عندهم ذخيرة نفيسة واشتهر حرصهم عليها وصار الواقفون عليها يحرمون الناس من تلقينها للتّفرّد بها، وبقيت بينهم على بساطتها الأصليّة بدون الشّدّ والتصوير فكانت قاصرة على أمّهات المقامات وبعض الفروع المقارنة لها،وكانت بالنسبة للغناء مثل حروف الهجاء بالنسبة للكلام. وأقام المغنّون في مصر على هذه الطّريقة البسيطة لايتصرّفون فيها إلى عصر عبده الحمولي فتلقّاها المرحوم منهم على أصلها وغنّى بها مدّة ثمّ دفعته سجيّته فيالطرب وحسنُ ذوقِه في الغناء أن يتصرّف فيها مع المحافظة على الأصل وعدم الخروج عن دائرته فأزال عنهابعض الجفوة. وما زال يرتقي المرحوم في شهرته بحسن الغناء حتّى ألحقه المغفور له إسماعيل باشا بمعيّته،فسافر معه إلى الآسِتنانة مرارًا وسمع هناك آلات الموسيقى التركيّة. وجلب إسماعيل باشا في عودته إلى مصر جماعةً من أكابر المغنّين فيها فكان المرحوم يحضر معهم دائمًا في اشتغالهم بالغناء. فاستمالته ألحانُهم وأخذ ينتقي منها ما يلائم المِزاج المصريّ ويناسب الطّريقة العربيّة ورأى المجال واسعًا له في الموسيقى التُّركيّة إذ وجد فيها كثيرًا من النّغمات الّتي لم يكن للمصريّين علم بها ولم تطرق آذانهم من قبل مثل النّهاوند والحجاز كار والعجم وغيرها، فنقلها إلى الغناء المصريّ. ثمّ التفت إلى بقيّة مصطلحات الغناء في الطّبقات المختلفة من ذلك العصر مثل المنشدين المشهورين بأولاد الليالي (الفقهاء) والعوالم (القيان) والمدّاحين (الضّاربين بالدفوف) والتقط منهم ما استنسبه فأضافه مع المختار من الغناء التركي وخلّطه بالطريقة القديمة فجعلها طريقة جديدة خاصّة به. وظهر في مصر وفيها شيوخ المغنّين وصار شيخًا عليهم (المويلحي, ٢٠٩١).

مقدّمة

على نحوٍ موازٍ للصداقة التي جمعت بين الإمام محمّد عبده (٩٤٨١-٥٠٩١)، مفتي الديار المصريّة، والمرنّم والملحّن عبده الحمولي (٣٤٨١-١٠٩١)، مطرب البلاط المصريّ (رزق, ٦٣٩١)، سلك هذان المجدِّدان مسلكًا متشابهًا في ما قاما به من استصلاح: الأوّل في مضمار كلّ من الفقه والفكر الإسلاميَّين، والثاني في ميدان الموسيقى الفنّيّة المصريّة (واستطرادًا الموسيقى الفصحى المشرقيّة العربيّة). فكلاهما سارا في خطّ الديناميّة الأولى التي حرّْكت النهضة الحديثة، وأعني ديناميّة التجدّد من الداخل أو "من داخلُ"، أي التجدّد المتأصّل، بحسب تصنيفات ألبرت حوراني (2691 ,inaruoH). نفصّل في هذه المقالة هَذين المسارَين اللذَين يبدوان لأوّل وهلة منقطعَي الصلة، لكنّ النهضة وفّقت بينهما.

Comments

No Comments.

Leave a replyReply to

Maqām Festival | مُلْتَقَى المُوسِيقَى المَقامِيَّة
P.O. Box 288
Postal Code 12311 Dokki
Giza, Egypt

Tel./whatsapp: +20 109 0379090
info@maqamfestival.com
www.maqamfestival.com

Copyright ©2023-2025 Maqām Festival. All Rights Reserved.